إنَّ الهوى ما تولَّى يُصمِ أوْ يَصمِ
*١
- قضيت فينة من العمر في صراع طويل مع الشك، و كتبت قبل ذلك عن ايجادي للايمان في حضرة الشك "في حضرة الشك اجد الايمان". و عادة ما كان للشك و الأيمان ارتباط لا انفكاك منه في تجربتي الشخصية جدا و تفاصيل حياتي اليومية من نوم و صحيان، و عمل و غضب و احباط و اكل و شراب و نجاح و فشل ، و غيره.
- و ارتباط الشك و الايمان عندي ثنائي الاتجاه، اذ يقودني مبلغ الشك الى الإيمان ، و أحياناً أخرى يقودني مبلغ الإيمان إلى الشك. فحين أمر بظروف صعبة على سبيل المثال، يكون الألم و الحوجة عادةً من أصدق ما يمكن أن يقربك الى الله زلفى و ذلاً و انكساراً. لكن في أوج الحزن و الألم أحيانا، وبينما انت تتضرع الى الله، يعتريك شك في غير محله، يأتي بغتةً في لحظات لا يمكن أن تتوقعه فيها، كمكالمة الساعة 2 صباحا، لماذا؟ كيف للشك ان يأتيك في أقرب أوقاتك مع الله، تناقض أصعب على العقل من معادلة رياضيّة.
- تحدثت قبل فترة من الزمن مع زميل لي امريكي، فكّر كثيراً في أمور الروحانية و الأديان والله، كان ملحداً من قبل، ثم أصبح يؤمن بالله، و لكنّه يعتقد أن الوصول لله لا يحتاج الى سلالم الدين و العبادة المعروفين، إن الدين ان لم يكن طريقا سيئاً للوصول إلى الله، فهو ليس بالطريق الوحيد. رغماً عن أنه يميل الى الأولى، ان الدين لا مناص له من الاختلاط بالتقاليد، و السلطة، و السياسة، لابد له في نهاية المطاف ان يكون مطيعاً تحت رغبات البشر و اهوائهم و نشواتهم يشكلونه كيف شاءوا. سألني لماذا انا مسلمة؟ في ظل كل هذا الذي ذُكر من قبل، و حقيقةً رغم محاولاتي الصادقة الإجابة على هذا السؤال، فقد كانت اسئلة صعبة على ذهني حتى و أنا أتحدث لغتي الأم، دعك من لغة غريبة على لساني و روحي و تاريخي و دواخلي التي هي وحدها تستطيع الإجابة عن هكذا سؤال.
- ثم ذهبت قبل شهر مع صديقي المسيحي الملتزم الى كنيسة دعاني لها لحضور احتفالهم بعيد مسيحي، سمعت الترانيم و الأغاني، و الصلوات، و شاهدت ذلك الطقس الذي نسيت اسمه و لكن يدخل الناس فيه الى حوض مليئ بالماء و يخرجون سريعاً و قالو لي أن بعضهم يشدّ الرحال الى نهر الأردن خصيصاً له، كما نشدّ الرحال الى الكعبة المشرفة. ثم تحدث القسيس عن علاقة الشك و التدين، كيف أن العالم الحديث يربيك على الإجابات المادية لكل سؤال، بينما بعض الأسئلة تكمن إجاباتها في داخلك لا خارجه، إجابات لا ملمس لها و لا طعم ولا رائحة. و هذه السعي بين السؤال و الإجابة، في مساحةً لا تحتل حيزاً من اي فراغ، هو ديدن الإيمان. لم أكن اكثر قناعة و يقيناً بإيماني و هويتي كامرأة مسلمة في هذا العالم الواسع و المتعدد، الدي يدفعك دفعاً إلى الملل و الميل ، أكثر من ذلك اليوم. مما يذكرني ذلك اليوم قبل اكثر من 6 سنوات حين زرت كنيسة في السودان و قامت الأرض و لم تقعد في بيتنا و تم استدعاء جميع الاسرة الكبيرة و الصغيرة من أجل الأمر الجلل.
*٢
- دوماً ما عجزت عجزاً كاملاً عن فهم ارتباط العشق و الإيمان في كلام المتصوفة، كيف لهم أن يتحدثوا عن الله الذي لم و لن يحيط به علم السموات و الأرض و كانه شخص من الجنس الآخر نكن له مشاعر التيم و التيه و نريد ان نكون معه و نغير عليه ونريد امتلاكه و نتلمس قربه. في حقيقة الأمر كانوا أشبه بالمجانين عندي، كلامهم غير مفهوم ولا محسوس، و أحيانا لا تفهم الكلام و لكن تحس و تشعر به، ولكني افتقدت كلاهما حين قراءتي لكلام المتصوفة هذا، اذ لم يعن لا لعقلي ولا لروحي شيئا من قبل.
يا لائمي في الهوى العذري معـــــذرة ***مني إليك ولو أنصفت لم تلــــــــــمِ
عدتك حالي لا سري بمســــــــــــــتتر ***عن الوشاة ولا دائي بمنحســـــــــم
محضتني النصح لكن لست أســـــمعهُ*** إن المحب عن العذال في صــــــممِ
*٣:
و على سيرة ما اعجز عن فهمه، فأنا أيضاً اعجز عن فهم الدائرة التي يدور فيها المؤمن، بين التضرع لله للحصول على العون على العبادة ولا يحدث ذلك التضرع الا عن طريقة العبادة، و من ثم تشكر على الله قدرتك على عبادته، ثم تتضرع للعون على المزيد من العبادة ، يُعين هو على عبادته، ليُعبد هو، و يُشكر هو على عبادتنا له.
ربنا اعنا على ذكرك و شكرك .. تُطاع فتُشكر .. والله لم يملُّ حتى تملُّوا، لا يمل من هدايتكم للعبادة، حتى تملوا انتم من العبادة.
"إذا سألوك عن ذنوب المحبين فقل :
كيف يبقى للمحب ذنوب
وهي في نيران الشوق تذوب"
تعصي الله ، ثم يكون الشوق سبباً لغفران العصيان.
- اتابع هذه الأيام صفحة تكتب الكثير من الحكم الصوفية من التبريزي و ابن الرومي و ابن عطاء الله السكندري، و في لحظة سكون الا من صوت الغراب خارج نافذة غرفتي، كنت اتأمل في كل هذا الذي ذكرته من قبل. تكشَّفت لي حقيقةً لم تخطر على بالي من قبل ( اغتية عراقية تقول : خطرنا على بالك، خطرنا يا هوى) اذا نحن من نخطر على بال الهوى و ليس هو من يخطر على بالنا. فيبدو أنني خطرت على بال الهوي، بلا مقدمات ولا أسباب، فتكشفت لي ولأول مرة أوجه الشبه بين العشق الآدمي/البشري، و بين الإيمان. فكيفما يظهر العشق الآدمي متناقضاً، متردداً بين رغبةً في أوجه لطفهِ من وصل و اهتمام و استجابة و مبادلة ، و رهبة من أوجهه الاخرى من خوف و غيرة و فراق و احباط، تمر رحلتك مع الإيمان بنفس الطريق احياناً و قد يختلف الناس في رحلاتهم.
- ترغب في الوصل مع الله، و تأمل ان يتسجيب لك و يبادلك الحب و يأتيك بالعطايا و الهدايا في أوقات الرخاء ، و تخاف ان يتركك وحيدا في أوقات الشدة، ان لا يستجيب، ان تناديه فلا يسمع، ان تنتظرة فلا يأتي، ان يضيع املك و جهدك و صلاتك و دعاءك هباء منثورا، ان تشعر بالهجر و الرفض ، و هذه الأوقات التي يجد فيها الشك مداخلا لروحك. هذا الصراع بين الرغبة و الرهبة هو ديدن العشق، آدمي كان ام لله.
- هنا بدأت افهم قليلاً، و قليلاً جدا، ماذا يعني هؤلاء المجانين، اذ أن هذه الحالة، هذه المنزلة من العشق يصعب فهمها إلا على من اختاره الله، ولا اعتقد انني منهم للأمانة ، وفي حقيقة الأمر لا أتصور حتى انني يمكن ان أصل لفهمه. و لكن بلا شك انتقلت من مكان لم أكن بمقدوري فيه حتى تخيله، كان كالجنون و مفارقة العقل ، لمكان بدأت أمتلك بعض خيوط الفهم له، و التخيل المتواضع ، و هذا يكفيني الآن.
*٤:
"اخترت ان أحبك في صمت، لأن في صمتي لا أواجه بالرفض" ابن الرومي
قد نخاف أحيانا من رفض الله لنا فلا ندعوه، فلا نتقرب إليه خوف الهجر وانعدام الاستجابة "ربي أتاك الناس بأعمال كالجبال ، و اتيتك بحفنة فيها روحي" فكرة أن تخطئ و تعود و تخطئ و تعود، لا تجدها الا عند من ربطك معه عشق و حب، الحب الأمومي مثلاً، أمك تكاد تكون الشخص الوحيد الذي ينتظر عودتك مهما بعدت و مهما أخطأت، لابد للحب الامومي ان يكون نورا من نور الله، الله وحده فقط من يمكنه أن يزرع في قلب إنسان هذه الدرجة من الحب مماثلة للحب الإلهي، لا يهم كم عدد المرات التي بعُدت فيها، لطالما في كل مرة منهم تعود رغبة أو رهبة، خوفاً أو طمعاً. "لعل رحمة ربي حين يقسِمها، تأتي على حسب العصيان في القِسم" هذه درجة من الحب لا تجدها الا عند الله ، و عند أمك من بعد الله فلابد للأمومة أن تكون روحا من روح الله أنزله للناس على الأرض، فالأمهات دوماً اكثر رحمة و حبا بأكثر أولادهم شقاوة و عصيانا و تمردا.
*٥:
هذه اللحظات غالباً ما تخفت و تذهب ، ربما بلا رجعة. و سرعان ما نعود لأصلنا كبشر ضعيفي النفس و الإرادة أمام رغباتنا و شهواتنا و ملذات الحياة المادية، فربما تساعد الكتابة على الإمساك و لو بقليل منها.
"من لي بِرَدِّ جماحٍ من غوايتها كما يُرَدُّ جماحُ الخيلِ باللجمِ"
Comments
Post a Comment