مناجاة من وراء حجاب ؟



دوما ما تعجبت من امر الدعاء، اذ اجد لساني مربوطا لا يعرف ما يقول رغم معرفتي التامة بما احتاج. تتصارع الأفكار في راسي بين الخوف من غضب الله و الأمان لرحمته، الاستحياء من ضعف ايماني و الرجاء في غفرانه، اليقين في استجابته و الشك في استحقاقي لها. و بين هذا و ذلك اجد لساني مربوطا و هو ليس طليقا في اصله أيا كان الحال. فلا اجد الا كلمات بسيطة، لا فصاحة فيها ولا تعبير، لا مناجاة ولا ونس، فقط كلمات مباشرة تبدأ و تنتهي ب يارب في الغالب دون أي زيادة على ذلك.
 و قد يفكر الانسان ان الله لا يحتاج لشعر او نثر لتصله، فهو اقرب اليك من حبل الوريد و يعلم ما يجول في خاطرك. 

" إلهى .. حكمك النافذ ومشيئتك القاهرة ، لم يتركا لذى مقال مقالاً ولا لذى حال حالاً .."
 العجيب في المسألة، ان الدعاء يخرج بعد حين من الزمن من كونه مجرد طلب، يارب اعطني فيعطيك، يارب كذا و كذا و تنتظر الإجابة و انتهى الامر. بينما تنمو حوجتك لشي اشبه بالونس و السمر. و لان لسانك عاجز و لم يحبوك الله بالكلمات و الذخيرة اللغوية و القدرة على تركيب الكلمات و كأنك رضعت اللغة بدلا عن الحليب مثل اخرين، فتبدآ باستلاف الادعية، و المقولات و المناجاة. ماذا كان النبي يدعي ؟ فتدعي به، ماذا كان يقول ابوبكر في صلاته؟ فتقول كما قال. كيف كان يناجي الشافعي الله؟ ماذا قال عطاء الله السكندي و هو يطلب الفرج من الله؟

 "كلما أخرسنى لؤمى .. أنطقنى كرمك" 
كيف لهؤلاء البشر ان يجدوا هذه الكلمات و التعابير عن تلك الأعاصير التي تدور في دواخلهم بهذه البراعة و الدقة و الصدق و القدرة على الوصف. كيف لهم ان يجمعوا كل تلك الصراعات التي عجز لساني تمام العجز امامها بهذه السلاسة ، كيف لتلك التناقضات ان تتجسد في شكل كلمات سهلة القول بسيطة النطق سريع الوصول للقلب لا تعقيد فيها و لا فذلقة. بتعرى بها المرء امام نفسه قبل ان يتوجه بها الى الله. 
و حين تتوجه الى الله بكلمات انسان اخر، تعابير انسان اخر، مشاعر انسان اخر، يبدو و كأنك بدلا عن ذلك تقول: يالله، انا مستحية منك " فبتضارى" بمن هو اشجع مني، انا بعيدة فاتوسل بمن هو اقرب مني، انا ضعيفة فالجأ اليك بكلمات من هو اقوى مني، انا ركيكة اللغة فاعبر لك باوصاف من هو افصح مني، انا جاهلة و اتيتك بتعبير من هو اعلم مني. اسلك طريق من حبيته علما و لغة و قربا و صدقا و ايمان و منزلة اعلى مني و اصطفيته علي. و كأن الانسان كلما ارتفع في منازل الايمان و القرب من الله، اطلق الله لسانه و صقل لغته و طوع له صور البلاغة و التعبير. فنحن نتشبه بهم، و ان كان اسمها مناجاة  المحسنين، فلسنا منهم، و لكننا ندعوك بما دعوك به هم. وما نزال نبحث ماذا قال فلان و كيف دعاك علان. فهل لنا ان ندعوك من وراء حجبان الكلمات و التعبير ؟
و هذا لا يعني ان الله لا يقربه من هو ضعيف اللغة مثلنا، و لكن قد تكون هذه حكمة تجلت في بعض الناس و هي علامة و أشارة على ان معرفة الله لا يمكن ان تنفصل عن الاجتهاد في الترقي في منازل العلم و المعرفة و اللغة و التعبير، فهم تميزوا في منازل العلوم و اللغة، مما قادهم للتميز في منازل الايمان. 
و ان كان هذا ما يعنيه بعض المتصوفة في التوسل لله ببعض الناس، فهذا مما ليس منه بد في رأيي. فكيف لابن عطاء الله السكندري ان يصف نفسه و حالته بهكذا سلاسة وكأن الكلمات تسري في عقله كسريان الماء في الجدول. وكيف لي ان اجاورهم في الحديث مع الله و التقرب منه الا بالمحاكاة و التشبه. 

إلهى .. أنا الفقير فى غنائى .. فكيف لا أكون فقيرا فى فقرى ؟؟ إلهى .. أنا الجاهل فى علمى .. فكيف لا أكون جهولاً فى جهلى ؟؟ إلهى .. إن اختلاف تدبيرك ، وسرعة حلول مقاديرك ، منعا عبادك العارفين بك ، من السكون منك الى عطاء ! واليأس منك فى بلاء ! إلهى .. منى ما يليق بلؤمى ! .. ومنك ما يليق بكرمك .. إلهى .. وصفت نفسك باللطف والرأفة بى قبل وجود ضعفى .. أفتمنعنى منهما بعد وجود ضعفى ؟؟ إلهى .. إن ظهرت المحاسن منى فبفضلك ولك المنة على .. وإن ظهرت المساوئ منى فبعدلك ولك الحجة على .. إلهى .. كيف تكلنى ، وقد توكلت لى ؟؟ وكيف أضام وأنت الناصر لى ؟ أم كيف أخيب وأنت الحفى بى ؟؟ ها أنا أتوسل إليك بفقرى إليك .. وكيف أتوسل إليك بما هو محال أن يصل إليك !! أم كيف أشكو إليك حالى وهو لا يخفى عليك ؟؟!! أم كيف أترجم بمقالى وهو منك برز وإليك ؟؟!! أم كيف تخيب آمالى وهى قد وفدت إليك ؟؟ أم كيف لا تحسن أحوالى وبك قامت وإليك ؟؟!! إلهى .. ما ألطفك بى مع عظيم جهلى .. وما أرحمك بى مع قبيح فعلى .. إلهى .. ما أقربك منى .. وما أبعدنى عنك .. إلهى .. ما أرأفك بى .. فما الذى يحجبنى عنك ؟!

Comments

Popular posts from this blog

إنَّ الهوى ما تولَّى يُصمِ أوْ يَصمِ

المَاضي يُنْصَبْ