نبتدي منين الحكاية
في ازقة كلية العلوم بجامعة الخرطوم، سرت وانا طالبة السنة الأولى في الهندسة الكهربائية، في يوم غير معتاد، اذ لم ازر كلية العلوم في كل مسيرتي الجامعية الا أياما عددا. سرت وحدي تملئني الحيرة، ويغمرني اليأس و شعور التغرب وعدم الانتما. وقمة احتياج الانسان بعد حاجاته الأساسية من أكل وشرب هو أن ينتمي لمكان ما، سبب ما. بحثًا عن هذا الانتماء عكفت شهورا، بل سنوات أبحث عن نفسي، اذ ان اول خطوات الشعور بالانتماء هي ان تجد نفسك لا ان تجد الآخرين أو تجد المكان او الأسباب، تجدهم إن وجدتها.
أذكر انني كآخرين كُثر، اعتراني انجذاب ودهشة نحو الظواهر الكونية على اتساعها كالمجرات او صغرها كالعوالم الذرية، وذلك حين بحث واستكشاف. ودارت الأيام، كما قالت الست ام كلثوم، والأيام تدور حرفا ومجازًا، وأدركت ان تلك الظواهر الفيزيائية على غرابتها وغموضها، لا تجاري دهشتي بابنة خالي الصغيرة وهي تحاول ان تلتقط الأقلام من على طاولتنا ولا تستطيع. لم تكن الأقلام ضخمة بشكل خاص، ولم تكن الطاولة طويلة على نحو شاذ، كانت الطاولة قريبة جدا لها وكانت وما زالت طفلة ذكية وكان نموها طبيعيا. ولكن في الحقيقة، ليس هنالك شي طبيعي في كل هذا.
انتهى بحثي المضني عن الذات الى خلاصة أساسية وانا في السنة الثالثة من الهندسة الكهربائية، انني لا أنتمي هنا، وهذا ليس بخبر جيد ولا جديد. ولكن الخبر الجيد والجديد هو ان اعرف اين أنتمي. ولكن نفق الحياة، ذاك الذي نرجو ان نجد في آخره الضوء ، لا ينتهي. تلك الخلاصة، تلك النية التي عزمتها لم تكن سهلة ولم يكن طريقها معبدا وانا لا ارجو ولا أجد متعة في سرد الاحداث والمصاعب والقصص التي تتعلق بالمسير في هذه الطريق الذي اخترته طوعا وحبا، بكل ما جلبه لحياتي من مصاعب قبل المسرات.
بعد سنين، وجدت نفسي بين ظهراني قوم يقضون يومهم في التفكير حول لماذا لم تستطع ابنة خالي ذات الأشهر التي لم تكمل حولا بعد التقاط تلك الأقلام، او لماذا قامت بالإشارة لذلك اليوم التي ارادتني ان اتذكره باليوم الذي شَرِبَتْ فيه العصير، وكأن شُرب العصير وحده كافيًا لجعل ذلك اليوم معلوما عندي. قوم يفعلون ما ظللت أفعله طيلة حياتي وكنت أعتبره قتلا للوقت والجهد الذي كان من الممكن ان يجلب درجات في مادة ما او مهارة تعين على الوظائف او ذلك الواجب اللعين الذي ينتظرني.
قضيت الكثير من الأيام والليالي اشعر بخجل وتوتر غير مبررين من الحديث او الكتابة عن رحلتي من نوفمبر 2012 في كلية الهندسة الى دراسة علم النفس التجريبي في سبتمبر 2020، رحلة من الشك الى اليقين بلا شك. اذ لا يتعلق الأمر فقط بالعناوين او المجالات، وانما شي أعمق بكثير، اذ كانت رحلةً للبحث عن الذات بكل ما يتبع هذه الجملة من تفسيرات، لم يكن اختياري لهذا المكان منفصلًا عن خياراتي الأخرى، إجابتي عن ذلك السؤال البسيط عن المجال الأكاديمي الذي أجد نفسي فيه، كانت إجابة لجميع اسئلتي حول العائلة والحب، حول الدين والدنيا، حول الهوية والثقافة، حول اللغة. لقد وجدتها وجدتها.
اكتب في هذه اللحظة بينما استمع لعبد الحليم حافظ نبتدي منين الحكاية. لم تكن مقصودة على الإطلاق"حاجة غريبة" وهو الآن يغني المقطع الذي يقول: تعالى نقول لغيرنا انا وانت ازاي قدرنا. ما جعلني أكتب هذا الذي كتبته اليوم كان حديثا بيني وبين زميل لي في الدراسة البارحة. قال لي:
Please don’t trivialize your story, tell it to others, it might make a difference for someone to hear it and then he told me about the false consensus effect in social psychology, but I am going to resist the temptation of going further with this, especially that I started to write in English LOL.
ربما، ربما يجب ان نتوقف قليلا عن الذعر والخوف و التوتر، ربما يجب علينا ان نثق قليلا، ان نحب انفسنا قليلا، ربما يجب ان نتحدث قليلا ونقول لغيرنا "ازاي قدرنا". ربما
و أخيرا ، ما زلت لا أعرف الإجابة عن لماذا لم تستطع "وتونة" التقاط الأقلام، و أجهل اكثر لماذا قامت باختيار شربها للعصير كعلامة لليوم المحدد، و لا أدري ان كنت سأعرف يومًا ما الأجوبة لهذه الاسئلة القديمة ، و لكني أعرف الكثير الكثير من الاسئلة الجديدة.
Comments
Post a Comment