ديسمبر .. لا تعتذر عما فعلت
ديسمبر ،، لا تعتذر عما فعلت
ديسمبر 2018 ،، ضاقت الأرض بما رحبت، و بلغ السيل الزبى، أتذكر جيدا تساؤلاتنا عن كيف سنعيش ، كيف سيعيشون. لقد بلغت القلوب الحناجر و الغضب لابد له أن يخرج من القلوب، لابد لنا أن ننفجر.
أتذكر جيدا يوم موت الطبيب بابكر ، لقد بكيت حتى احمرت عيناي ، بصوت عالٍ، تسبب في شجار كبير بيني و بين أمي. شجارات كانت شبه يومية طوال فترة المظاهرات. ايام عصيبة داخل البيت و خارجها.
كانت الفترة بين ديسمبر 2018 الر مارس 2019 هي الأفضل نسبيًا، أيام يملؤها الشعور بالقدرة على الفعل ، بالتعاون، بالمشاركة، بالخوف على بعضنا البعض، بالعطاء. كنا نخرج للمواكب فرحين، مبتسمين، و ناظرين لغد أجمل. كنا ننتظر مواكب بحري بفارغ الصبر ، لكي نجهز الماء، و العصائر، و السندوشتات لعل الثوار يأتون عند منزلنا و هم جائعون و عطشون، و يالعارنا ان لم يجدوا شيئا.
ثم جاء ابريل،
جاء ابريل بكل أكاذيبه، الحقيقية منها و ليس المزاح، اول ذكريات ابريل هي تلك الفتاة التي كتبت على منصة تويتر أن صديقتها تعرضت للتحرش في الاعتصام في اليوم الثالث له و عن الظواهر السالبة التي بدأت تظهر. اتذكر جيدا الألفاظ و الشتائم التي انهالت على تلك الفتاة من الثوار متهمين لها بالكذب من اجل تشويه سمعة الاعتصام و الثوار، كلمات من شاكلة : دا الدايراو انتي ما في كلام زي دا، كوزة عايزة تشويه سمعتنا. و سرعان ما تكشفت حقيقة الأشياء و البقية قصة عادية.
ابن عوف ؟ وسخان جابو الكيزان ، كمال عبد المعروف ؟ وسخان جابو الكيزان ، … ؟ وسخان جابو الكيزان ، طيب برهان ؟ error 404
كنا انا و جارتي و صديقتي نخرج صباحا في اول ايام الاعتصام حاملين معنا سرامس الشاي و القهوة من المنزل لأولئك المرابطين ليلًا هناك لعل احدهم استيقظ للتو و يحتاج لبعض من المنبهات، كانت تتملكنا حالة التعاون و الفعل المشترك بالممكن و الموجود التي اكتسبناها خلال الثلاثة شهور السابقة.
و من ثم امتلآت ارض الاعتصام بسيارات الشركات الكبرى و المصانع جالبة الكراتين الأكل و الشرب، اصبح المكان كمهرجان دعائي كبير، تجد فيه بعضا من فرح كأي تجمع بشري كبير يجد الناس فيه مساحة للتعبير و الرقص و الغناء و تلك الحالة اليفورية الجميلة التي تعتريك مثلا إن جربت الذهاب لحفلة جماهيرية او دي جي. كان الاطفال يحملون أعلام السودان و يغنون و يبتسمون، و يهتفون للسلام و العدالة و الحرية، مشاهد تسر الناظر اليها بلا شك. كان ملتقى كبير لكل من أردت رؤياه من أصدقاء الاساس و الثانوي و الجامعة، و المغتربين و الجيران.
عساكر جيش هنا ، و دعامة هناك، تاتشرات في كل مكان، و هتاف. منطقة عسكرية كانت أم مدنية ؟ مهرجان ام سجن كبير ؟ حرية ام خوف ؟ صوابية ام ابتزاز ؟ حق في التعبير أم مصادرة ؟ ثوار ضد العسكر أم دعم سريع ضد الدولة ؟ لا أحد يعرف ما الذي يجري بالضبط و لكن هناك بالتأكيد “ثورة”
يخرج على الناس نفرٌ من المفاوضين كل فينة و الأخرى او اذا احتاجوا لجمعٍ يصرخ معهم “تسقط تالت” اذا ما لم تسر الامور مثلما يريدون مع العسكر ، و الباقي تاريخ و هناك من يعرفه افضل مني بكثير.
عندما قارب رمضان، أصبح الاعتصام شبه فارغ، انفض الناس عنه، خيم هنا و هناك خالية الا من “اليافطات” ، القليل من الشباب، و اشعة الشمس الحارقة. اتذكر جيدا تلك الفتاة و هي تسير وحدها في شمس يمكن ان تذيب الحجر، و شارع ممتد من كبري الحديد إلى جامع الجامعة فارغٍ الا من قليل من أتوا لزيارة المكان ذلك اليوم مثلنا، على يسارها صورة كبيرة لحميدتي الضكران الخوف الكيزان ، تهتف وحيدة و بصوت مبحوح و خائر من التعب، الدم قصاد الدم ما بنقبل الدية. عندما بدآ رمضان، و قبل أذان المغرب قليلا، تستعيد الشوارع بعض الروح في وقت “المويات” من الجموع الآتية للإفطار و الصلاة، بعض الهتاف للتذكير بروح الثورة بين الإفطار و صلاة التراويح، او تقضية سهرة رمضان. حفلة هنا، و نهائي ابطال اوروبا هناك أحياناً. لمَ يقوم البرهان بفض الاعتصام ؟ و التوغل في الدماء و الأحزان ؟ و قد كان سيفض نفسه بنفسه إن صبر يومين، هكذا تساءلت بعد فض الاعتصام بفترة.
مشهد جانبي: اقترح البرهان تسوية شاملة تشمل جميع القوي ما عدا المؤتمر الوطني، أحزاب الفكة، عايز يجيب الكيزان تاني، شاركوا في الحوار الوطني ، ما شاركوا ، انتو شاركتوهم قبل كدا ، نحن ما شاركناهم، … الادرينالين في أعلى مستوياته، ذكريات الاعتقالات و الموت ما زالت حية، الكيزان يرجعوا تاني ؟ اي كوز ندوسه دوس، دق النحاس من ضي، صوت الشوارع حي، متاريس، بلوكات، متاريس ، بلوكات …
في تلك الفترة كان ال Cognitive dissonance التنافر المعرفي في عقلي قد وصل قمته ،، و التنافر المعرفي هو عندما تشعر بآن موقفك او ما تفعله يتنافي مع قيمك او ما تعتقده او ما تؤمن به. أخبرني أحدهم في محادثة عادية انه كان يستقل المواصلات من ام درمان إلى مكان عمله في منطقة ما في محلية الخرطوم في 40 دقيقة و الآن يحتاج إلى ساعتين لأن المواصلات غيرت مساراتها بسبب الاعتصام. رايت بأم عيني امراةً حامل و معاها أهلها، و طفلة صغيرة في شارع المعونة و هي تتحدث معهم بأسوء الأساليب لأنهم يريدون المرور عبر المتاريس. لقد كنت اجد العذر لهكذا تصرفات قبل اشهر فقط، عندما مات بابكر و عبداالعظيم و اعتقل اصدقائي و اهلي ، و اكتظ بيتي بالبمبان ، و الثوار الهاربين ، و مناظر الشرطة و بكاسي الأمن التي لم تفارق حيي خلال شهور، بأي ذنب؟. و لكن انقشعت غمامة الغضب كمان انقشعت اليفوريا. ببطء و هدوء انقشع كل شي.
و اقعد أعيد ، كل الشريط ، من أولو، في سري في قلبي الكبير
مؤسسات تدمرت، موظفين مفصولين، تعليم معطل، ميزانية غير مجازة، دعم سريع متمدد، تدخلات خارجية، سفارات تمول لجان مقاومة، مساحة مستباحة من الكل، انفلات امني، نعرات قبلية، انفصال، الميناء ، الفشقة، الكل يبحث في هذه الجسد الهزيل المسمى السودان عن مكان ليضع يده عليه … ما زال تنافري المعرفي يردد في أذني الداخلية: ربما هذا هو طوفان ما قبل النصر، كان ولابد لكل ذلك أن يحدث، إنها الثورة، ليست بالشيئ الهيِّن ، و لن نجد مردودها سريعًا.
…. تفاصيل غير مهمة ….
و من ثم الحرب
لا تعتذر عما فعلت ؟
في ثقافة مثل ثقافتنا المجتمعية ، لا يوجد ما يسمى بالتجربة و التعلم، إن أي قرار تقوم به مهما كان صغيرًا مثل أن تأكل ام رقيقة ام نعيمية اليوم مثلًا، قد يكون له ما بعده من إرهاب اجتماعي و معايرة و ابتزاز يجعل إعادة التفكير مستحيلة، و التراجع أو الاعتذار اكثر استحالة. ماذا إذًا بقرارات سياسية مثل إسقاط حكومة، او الخروج في مظاهرات كانت جزءً أساسيًا من احداث عديدة أدت إلى الحرب. كل ذلك الاستثمار النفسي ، الشجار و الجدال، حتى العداءات التي دفعتها كلفة لتلك المواقف، أجواء عامة هي انعكاس اكثر سوءًا لثقافة المعايرة و الابتزاز و زمان ما قلت و فعلت و تركت، و متييين غيرت رأيك و نسيت و …. الخ
نعم لا تعتذر عما فعلت ،، فانت لم تكن سوا شاب/شابة حالمة، غاضبة بسبب الظلم و انعدام العدالة و استشراء الفساد، انت لم تكن قائد الجيش و لا في كابينة التفاوض و لم تقابل سفيرًا و لم تخن وطنًا، لم تقتل مواطنا و لم تحكم 30 عاما بعت فيها ما بعت و افسدت فيها ما افسدت، و بالطبع لم تطلب تدخلًا خارجيًا أو تدعم ميليشيات في وجه أهلك و بلدك. لا تعتذر فلم تفعل شيئا غير انك حلمت بواقع افضل لك و لغيرك.
لا تعتذر، و لكن من الشجاعة، و الصدق ، و الذكاء، أن تعتاد المراجعة و النقد، لا تهرب منها و لا تخف، مراجعة المواقف و نقدها و تصحيحها من أجل المستقبل هي من أشرف و أصدق ما يمكن أن نفعله الآن ، لا تعرّف نفسك بالحدث الماضي و لكن بما يمكن أن تفعله في المستقبل، لا تكن حبيس الذكريات بل استكشف ذاتك و ممكناتك لفعل أكثر ملائمةً و تأثيراً في مستقبل الأحداث. إسأل عن ماهية الدولة و المجتمع و ما هي المصالح و ما الذي تريده حقًا و أين تنتهي حقوقك و واجباتك و تبدأ … هنا تصبح التجارب السابقة إن أصابت ، بل الأحرى إن أخطأت فرصاً للتعلم، محطات صعبة و لكنها ضرورية ، مساهمات، فعل حقيقي و صادق، عتبة من عتبات ، خطوة في الطريق ، بدلًا عن ان تكون أخطاء كارثية توجب الاعتذار.
Comments
Post a Comment